ابن خلدون شاعراً
محمد الغزي
انشغل الدّارسون بابن خلدون المفكّر عن ابن خلدون الشاعر، فلم يجمعُوا قصائده، ولم ينعطفوا عليها بالنّظر والتّحليل فظلّت، بسبب من ذلك، مجهولة، مبثوثة في بطون الكتب يَشُقٌّ على الدّارسين تأمّلها أو النّظر فيها.
ونحن، إذا عُدنَا إلى مؤلّفات العلاّمة، بادهنا كلفُهُ بالشّعر ينظمه في مناسبات عديدة مستهدياً، في نظمه، بعدد من الشعراء حفظ قصائدهم، منذ حداثته الأولى، وقد ذكر في "التعريف": أنّ أستاذه أبا عبد الله محمد بن بحر دعاه إلى حفظ الشّعر فحفظ كتاب الأشعار الستّة، والحماسةَ للأعلام وشعر حبيب وطائفةً من
شعر المتنبّي ومن أشعار كتاب الأغاني..."(1) لكنّ العلاّمة سرعان ما استدرك قائلاً: "إنّ محفوظهُ من الشّعر ظلّ من ذلك قليلاً"، لكنّ هذا القليل مكّنه، مع ذلك، من معرفة أسرار النّظم وعقد القوافي فتصدّى للشّعر وهو يافعٌ يكتبه وينقده في آن واحد".
والمتأمّل في المقدّمة يلحظ أنّ العلاّمة كان يُحلّل الشّعر تحليل العالم بدقائق الصّناعة ولطائف النّظم كما يلحظ جودة ملكة الرّجل وهو يستحسن بعضَ القصائد أو يسترذلها ولا بدّ لهذا المتأمّل أن يقتنع بأن للعلاّمة دراية بالشّعر وبصراً به.
وقد امتدح منذ القديم العديد من النّقاد شعرهُ فهذا إسماعيل بن يوسف الأحمرُ يقول: "كان ابنُ خلدون هذا من عجائب الزمان، وله من النّظم والنّثر ما يُزري بعقود الجُمان"(2) وهذا لسان الدّين بن الخطيب يقول: "وأمّا نظمه فَنَهَضَ لهذا العهد قدماً في ميدان الشّعر ونقده باعتبار أساليبه فانثال عليه جوّهُ، وهَانَ عليه صعبهُ فأتى منه بكلّ غريبة"(3) بل إنّ ابن خلدون نفسه يقوّم قصائده فيقول "إنّها توسّطت بين الإجادة والقصور"(4) لكن العلامة لم يسع، مع ذلك، إلى جمع شعره أو تدوينه وإنما اكتفى بحفظه حتّى إذا أراد الاستشهاد به استحضره من الذّاكرة، ولنا في كتاب التعريف من النّصوص ما يؤكّد هذا ويزكّيه. فهو يقول بعد أنْ أثبت عدداً من الأبيات من قصيدته البائية:
صحا الشّوقُ لولاَ عبرة ونحيبُ
"ولم يحضُرني منها إلا ما اذكره"(5) كما علّق بعد أن ذكر أبياتاً من حائيّته:
هذي الدّيارُ فحيّهِنَّ صَبَاحا
وقف المطايا بينهنّ طلاحَا(6)
"وهي طويلة ولم يبق في حفظه منها إ لاّ هذا"(7) وكثيراً ما تخونه الحافظة فلا تُسعفه بالقصائد التي يُريد استحضارها، من ذلك أنّه قال بعد أن أثبتَ قصيدتين نظمهما "وأنشدتُهُ في سائر أيّامه، غير هاتين القصيدتين كثيراً لم يحضرني شيءٌ منه"(.
كل هذه النّصوص التي ذكرنا تؤكّد أنّ العلاّمة لم يجمع شعره في كتاب وإنّما اكتفى بحفظه فإذا ما أراد الاستشهاد به استدعاه من الذّاكرة.
فلماذا لم يدوّن ابن خلدون شعره؟
لعلّنا لا نعدو الصّواب إذا قلنا إنّ العلاّمة كان، رغم إطراء بعض النقّاد لقصائده، يغضّ من شعره ولا ينظرُ إليه بعين القبول والرّضى، وقد أشار في العديد من فصول "المقدّمة". و"التعريف" إلى تعسّر الشّعر عليه بل إنّه كتب إلى لسان الدّين بن الخطيب قائلاً: "أجد استصعاباً عليَّ في نظم الشّعر متى رمتُهُ مع بصري به وحفظي للجيّد من الكلام"(9) ثمّ إنّه ما فتئ يردّدُ أن الشّعر من بين فنون الكلام " صعب المأخذ... ولهذا كان محّكاً للقرائح في استجادة أساليبه وشحذ الأفكار في تنزيل الكلام في قوالبه"(10). ولهذا أعرض عنه في كهولته وتفرّغ للعلم، وقد استغلّ أعداؤه قُعُوده عن الشّعر للإيقاع به، فقد أغروا به السّلطان أبا علي العبّاس وادّعَوْا أنّه لَم يمدحْهُ استهانة بسلطانه وهو الذي امتدح الملوك والوزراء قبلهُ فكان على ابن خلدون أن يعرّج، في القصيدة التي نظمها في السّلطان، على تبلّد طبعه ونُضُوب فكره بحيث لم يعد قادراً على النّظم:
مَوْلاَيَ غَاضَتْ فِكْرَتي وتبلّدَتْ
مِنّي الطّباعُ فكلّ شَيْءٍ مُشكِلُ
وأجدُّ ليلي في امتراء قريحتي
وتَعُودُ غَوْراً بينما تَسْتَرْسِلُ
فأبِيتُ يعْتَلجُ الكَلاَمُ بخَاطِري
والنّظْمُ يَشْرُدُ والقوافي تَجْفُلُ(11)
بل إنّه يعترف أن قصيدتُه باتتْ كالمرأة المرهاء (غير المكتحلة) تنْقصُهَا الزينة والاحتفال.
وبناتُ فكري إنْ أتتك كليلة
مَرْهاء تَخْطِر في القُصُور وتَخْطِلُ
فَلَهَا الفَخَارُ إذا منحتْ قبُولَهَا
وأنا على ذاك البليغُ المِقْوَلُ(12)
وعلى قدر تهوين ابن خلدون من شأن شعره كان يفتخر بكتاب العبر الذي أزجاه هديّة للأمير فيقول:
وإليْكَ مِنْ سير الزّمان وأهله
عبراً يدينُ بفضلها مَنْ يَعْدِلُ
صحُفاً تترجمُ عن أحايث الأُولى
غَبرُوا فَتُجمُلُ عنهم وتُفصّلُ
تُبديّ التّتابعُ والعمالق سرّها
وثَمُودُ قَبْلَهُمُو وعاد الأوّلُ
والقائمون بملّة الإسلام من
مضر وبربرهم إذا ما حُصِّلُوا
لَخَّصْتُ كُتْبُ الأوّلينَ لجَمعِها
وأتيتُ أوَّلَهَا بمَا قَدْ أَغْفَلُوا(13)
وقصارى القول أنّ ابن خلدون كان ينظمُ الشعر لأنه من الصّناعات التي ينبغي للأديب الحاذق أن يكون عالماً بها، مُطَّلِعاً على أسرارها... فالشّعر في نظره، "اكتساب خالصٌ"(14)، إذْ أنّ الملكة الشعريّة تنشأ بحفظ الشعر، وملكة الكتابة تنشأ بحفظ الأسجاع والترسيل.
لكن كيف فهم ابن خلدون الشعر؟
وكيف عَرَّفَهُ؟
وما هي، في نظره، أهمّ شرائطه؟
يعرّف ابن خلدون الشعر قائلاً: "الشّعرُ هو الكلامُ البليغُ المبنيّ على الاستعارة والأوصاف المُنْفصلُ بأجزاء مُتّفقةٍ في القافية والرويّ، مستقلّ كلّ جزء منها في غرضه ومقصده عمّا قبله وما بعده الجاري على أساليب العرب المخصوصة به"(15).
في هذا التعريف إلمامٌ بحدود للشعر قديمة تجعل الوزن والقافية من شرائط الشّعْر وقوانينه الأولى، وفيه أيضاً تطلّع إلى تعريف جديد يحفل بالصّورة أساساً للقول الشّعري، فالشّعر في نظر ابن خلدون، هو قبل كلّ شيء "قول بليغ" يفترق عن الكلام المألوف بما خُصّ به من صناعة، فهو إذا أخذنا بعبارة ابن رشد "القولُ الذي أخرج غير مخرج العادة" ولا يتمّ ذلك إلاّ بالمجاز أو ما عبّر عنه الجرجاني بالأحداث التي تحدثُ بالتأليف والتّركيب.
ولعلّ هذا يحيلنا على تيّار في النقد المغربي ناهض التعريف العروضي للشّعر ومال إلى تعريفه من جهة العمل والصّنعة. وربّما لهذا السّبب كان ابن خلدون من أوائل النّقّاد الذين قربُوا بينَ النّثر والشعر إذ عمد إلى اعتبار أنماط من الكتابة من صنف الشعر وإنْ لم تلتزم بالأوزان والقوافي. فالشّعر، في نظر ابن خلدون هو قبل كلّ شيء طريقة في القول وأسلوبٌ في إجراء الكلام فهو يقول "إنّ المتأخّرين قد استخدموا أساليب الشعر وموازينه في المنثُور من كثرة الأسجاع والتزام التّقفية وتقديم النّسيب بين يدي الأغراض، بحيث أصبح هذا المنثُور عديل المنظوم يُطنبُ مثلهُ في الأوصاف وضرب الأمثال ويُكثر من التشبيهات والاستعارات، وصار هذا المنثور إذا تأمّلته من باب الشّعر وفنّه"(16) لهذا السبب رغب ابن خلدون عن هذا الصّنف من الكتابة في مؤلّفاته العلميّة لأنّه "يذهبُ بالأفكار ولا يبقى في الكلام إلاّ المحسّنات"(17) وجنحَ إلى الكلام المرسل الذي يسلُكُ إلى الفكرة مسلكاً واضحاً لا لبس فيه ولا غموضَ. فهو أولى بالحقول المعرفيّة التي يَخوض فيها الرّجل وإن بدا هذا الضربُ من الكلام في عصره "مستغرباً بين أهل الصّناعة"(18).
ولكنْ كيفَ تترسّخُ ملكةُ الشّعر في النّفوس؟
يردّدُ ابن خلدون في مواضع كثيرة من المقدّمة أنّ ملكة الإنشاء لا تُستْحكَمُ لدى الشاعر إلا بالحفظ، فمتى أراد المرْءُ أن يكون شاعراً وجبَ عليه أن يحفظ شعر فحول الجاهليّة والإسلام، فعنْ طريق الحفظ ترسُخُ أساليب الشّعر في النّفس وتنطبع صورها في الذهن فإذا أراد الشاعرُ أن ينظُم قصيدة استحضر هذه الصّور وتلك الأساليب وكتب على منوالها، فمؤلّف الكلام كالبنّاء أو النَسّاج والصّورة الذّهنيّة المنطبقة، كالقالب الذي يُبْنَى فيه أو المنوال الذي يُنسجُ عليه... فإن خرج عن القالب في بنائه أو على المنوال في نسجه كان فاسداً..."(19).
إنّ المحفوظ الذي عدّه ابن خلدون أساسَ الملكة الشّعريّة هو الذي وَجَّهَ مجملَ قصائده، ومجمل صوره ورموزه. فالعلاّمة كان يكتبُ بهدي من ذاكرة موشومة بنيران نصوص كثيرة، تُملي عليه طرائق التعبير وأساليبَ الصّياغة.
أمّا القصائد التي نظمها فقد كانت تدور على غرضين اثنين هما المديح والشكوى، فأمّا قصائد المديح فقد نظمها في مناسبات مختلفة وأنشدها في حضرة الملوك والوزراء إبقاء لمودّة أو دَرْءاً لسعاية، وأمّا قصائد الشكوى فقد نظمها تحت وطأة الغُربة يُعزّي نفسه بعود إلى الأهل وشيكٍ... وفي أكثر الأحيان يمزج بين هذين الغرضين، فيمدحُ شاكياً، ويشكُو مادحاً كما في قصيدته اللاّمية التي مطلعُها:
هنيئاً بصَوْمٍ لاَ عَدَاهُ قَبُولُ
وبُشْرى بعيدٍ أنتِ فيه مُنيل(20)
وعلى عادة الشعراء القدامى كان ابن خلدون يستهلّ قصائده المدحيّة بالوقوف على الأطلال فيخاطب الرّبع، ويستوقف الرّفيق ليجعل ذلك، على حدّ عبارة "ابن قتيبة" سَبَباً لذكر الأهل الذين رحلوا عن الدّار، ويوصلُ ذلك بالنّسيب ليشْكوَ شدّة الوجْد والألم، وفرط الصبابة والشّوق، يقول في مدح أحد السلاطين:
أهْفُو إلى الأطْلاَل كانَتْ مَطْلِعاً
للبَدر مِنْهُمْ أو كناسَ رَبيبِ
عبثتْ بها أيْدي البِلى وتردّدتْ
في عطْفها للدّهر أيّ خُطوب...
وإذا الدّيارُ تَعَرَّضَتْ لمتَيّمٍ
هزّتْهُ ذكرَاها إلى التشبيبِ....(21)
إن النسيب في هذه القصيدة، كما كان في القصيدة القديمة، تقليدٌ فنّي، الغاية منهُ عطفُ القُلُوب على الشاعر وصرفُ الوجوهِ إليه، وهوَ في كلّ الأحوال بابٌ يلجُ منهُ الشاعر إلى موضوعات شَتَّى حتّى لتبدوَ القصيدة عدداً من القصائد يأخُذُ بعضها برقاب بعض. ففي هذه البائيّة يخرجُ الشاعرُ من النّسيب إلى مدح الرّسول، ومن مدْح الرّسولُ إلى الشوق إلى البقاع المقدّسة، ثُمّ يلتفتُ إلى الممدُوح يعدّدُ خصاله:
يا ابن الألى شادُوا الخلافة بالتُّقَى
واستأثروك بتاجِهَا المعْصُوبِ
جَمَعُوا لحفظ الدّين أيّ مناقبٍ
كَرُمُوا بها في مشْهَدٍ ومغيبِ...(22)
لكنّ هذه القصيدة تظلّ، ككلّ قصائد ابن خلدون، فضاء تتجاوبُ فيه أصواتُ العديد من الشعراء القدامى:
غَرُبَتْ ركائبُهُمْ ودمْعِي سَافِحٌ
فَشَرِقْتُ بَعْدَهُمَو بماءٍ غُروبِ
يَسْتَعْذبُ الصَبُّ المَلاَمَ وإنّني
ماءَ المَلاَمِ لديَّ غَيْرُ شَرُوب
مَا هَاجنِي طَرَبٌ وَلاَ اعْتَادَ الجَوَى
لَوْلاَ تَذَكّرُ مَنْزلٍ وحبيب(23)
فإذا كان البيتُ الأوّل يستعيدُ صورة الشّرق بالدّمْع في بائيّة المتنبّي فإنّ البيتَ الثّاني يستحضرُ صور "ماء الملام" في همزيّة أبي تمّام أمّا البيت الثّالث فهو كتابة جديدةٌ لمطلع معلقة امرئ القيس: قفانبْك...
هذه الظاهرة ظاهرة استدعاء النّصّوص القديمة، متواترة في كل قصائد ابن خلدون حتّى لكأن الكتابة، لدى العلاّمة، ضربٌ من التوليد، توليد نصٍّ جديد من نصٍّ قديم.
من مُبْلغٌ عنّي الصّحب الأُلَى تركُوا
ودّي وضاع حماهم إذْ أضاعوني
إنّي أويْتُ من العليا إلى حرمٍ
كادْت معانيه بالبُشرى تُحّييني(24)
لقد بقيَ ابنُ خلدون أسير ذاكرته فلمْ يسع إلى الخروج على النّصوص التي اختزنتها فظلّ يُحاكيها أو يُحاذيها، مستفيداً من "حسّه النّقدي" المرهف في سياسة اللّفظ وإجْراء المعنَى.
ولاَ تختلف قصائده في الشّكوى عن قصائده المدحيّة في المتح من ماء التّراث فابن خلدون ظلّ متشبّثاً بجماليّة القصيدة الأمّ يستحضر في قصائده، طرائقها في الأداء وأساليبها في التّعبير ولعلّ أشهر قصائده في الغرض لاميّتُهُ التي كتبها للجوباني في مصر ومطلعها:
سيّدي والظّنون فيك جميلهْ
وأياديك بالأماني كفيلهْ(25)
ولهذه القصيدة قصّة طريفة كانتْ سبباً في نظمهَا فقد وقّع ابن خلدون على فتوى تُحلّ دم الظاهر برقوق حاكم مصر المخلوع وقد كان صديق العلاّمة ووليّ نعمته منحازاً بذلك إلى خَصْمه وعدوّه اللّدود "منطاش" الذي استولى على السّلطة، يقول محمد طه الحاجري "وقد كان ابن خلدون يستطيعُ أنْ يفعَلَ ما فَعَلَ الشيخ شمس الدّين المالكي حين طُلبَ منهُ أن يكْتُبَ على الفتوى فامتنع وتعرّض بذلك للضرب والحبس لولا أن ابن خلدون كان قد غلبتْ عليه روحُ التسليم وإيثارُ العافية فاستسلمَ لما كان يُرادُ منهُ"(26).
لكن سرعان ما استردّ برقوق عرشهُ ونقَمَ على كل من كتبَ الفتوى وكان من ضمنهم ابن خلدون فأسرع إلى خلعه عن الخانقاه التي كان يُديرها وكانت كثيرة الحبوس موفورة الدّخل فأقبل ابن خلدون على نظم قصيدة إلى الجوباني صديق السلطان يتنصّلُ فيها ممّا أُخذَ به ويرجو منه أن يعرض على السّلطان أمرهُ وقد وصف العلاّمة في هذه القصيدة غُربتهُ في بلاد مصر، وذَكَّرَ السّلطان بأنّه نزل ضيفاً عليها. فهو يتوجّه إلى الجوباني قائلاً:
وَتَلَطّفْ في وصفِ حالي وشكوَى
خَلّتي يا صفيّهُ وخَلِيلَهْ
قُلْ له والمقال يكرُمُ من مثْـ
لك في محفل العُلاَ أنْ يقُولَهْ...
لا تُقصِّرْ في جَبْر كسري فما زِلْـ
ـتُ أُرجيّك للأيادي الطويلهْ
أنا جارٌ لكم منعْتُم حِمَاهُ
ونَهَجْتُمْ إلى المَعَالي سبيلَهْ
وغريبٌ أنسْتُمُوُه على الوحْـ
شَة والحُزن بالرّضى والسّهوله
وجمعتُمْ من شمله فقضَى
الله فراقاً وما قضى مأمولـهْ
غالهُ الدّهر في البنين وفي الأهْل
وما كان ظنّه أن يغُولَهْ(27)
هذه المعاني نفسها تردّدتْ في العديد من قصائد ابن خلدون فهو ما فتئ يَجْأرُ بالشّكوى، متبسّطاً في وصف غُربته ملوّحاً للأعدَاء يمعنون في إيذائه:
عَلَى أيّ حَالٍ للّيالي أعاتِبُ
وأيّ صُروف للزّمان أُغَالِبُ
كَفَى حُزْناً أنّي على القُرْب نازحٌ
وأنّي على دَعْوي شُهُودي غائبُ
وإنّي على حُكم الحوادث نازلٌ
تُسالمني طوراً وطوراً تحاربُ(28)
لقد كان ابن خلدون يتحاشى، في كلّ قصائده، غريب الألفاظ وبعيد الاستعارات، فلم يستخدم إلا قريب الكلام ومألُوف الصّور، ولا شكّ أنّه كان يقتفي أثر شعراء الأندلس الذين اتّصفوا بسلاسَةِ العبارة، والسّلاسة في هذا السّياق هي قرينة الإبانة والوضوح، فابن خلدون الذي أخرج المتنبّي والمعرّي من دائرة الشّعر وألحقهما بدائرة الحكمة إنّما كان أميل إلى الشّعر الأندلسي الذي كان يختار من الألفاظ أقربها ومن الصّور أوضحها. فالقصيدة بالنسبة إلى ابن خلدون "رسالة" وككلّ رسالة تتضمّن جملة من المقاصد، هذه المقاصد هي التي ينبغي أن يلتقطها المتقبّل دون مكابدة أو عناء فلا يحتاج إلى شَرْحٍ أو تأويل...
تلك هي في نظرنا، أهم خصائص الشّعر الخلدوني، هذا الشّعْر الذي لم يخرج على السُنّة الشعريّة بل ظلّ يستعيدُ خصائصها الفنّية والجماليّة. وينبغي الاعتراف أنّ قصائد العلاّمة لا تخلو من التعمّل والتكلّف اللذين انتَهَيا بها في الكثير من الأحيان إلى الابتذال. وكأنّي بالشاعر يتعمّد الانطلاق من جملة من المعاني يريد إثباتها في قصيدته فيكرهُ الألفاظ إكراهاً على تأديتها من غير أن يُبالي من الوقوع في الاستكراه ويعترف ابن خلدون، في غير ما موضع من المقدّمة، أنّه ليسَ من الشعراء المطْبُوعين الذين يوصفون بتدفّق البديهة التي ينثال معها الكلام انثيالاً دون تعمّل أو تكلّف!
محمد الغزي
انشغل الدّارسون بابن خلدون المفكّر عن ابن خلدون الشاعر، فلم يجمعُوا قصائده، ولم ينعطفوا عليها بالنّظر والتّحليل فظلّت، بسبب من ذلك، مجهولة، مبثوثة في بطون الكتب يَشُقٌّ على الدّارسين تأمّلها أو النّظر فيها.
ونحن، إذا عُدنَا إلى مؤلّفات العلاّمة، بادهنا كلفُهُ بالشّعر ينظمه في مناسبات عديدة مستهدياً، في نظمه، بعدد من الشعراء حفظ قصائدهم، منذ حداثته الأولى، وقد ذكر في "التعريف": أنّ أستاذه أبا عبد الله محمد بن بحر دعاه إلى حفظ الشّعر فحفظ كتاب الأشعار الستّة، والحماسةَ للأعلام وشعر حبيب وطائفةً من
شعر المتنبّي ومن أشعار كتاب الأغاني..."(1) لكنّ العلاّمة سرعان ما استدرك قائلاً: "إنّ محفوظهُ من الشّعر ظلّ من ذلك قليلاً"، لكنّ هذا القليل مكّنه، مع ذلك، من معرفة أسرار النّظم وعقد القوافي فتصدّى للشّعر وهو يافعٌ يكتبه وينقده في آن واحد".
والمتأمّل في المقدّمة يلحظ أنّ العلاّمة كان يُحلّل الشّعر تحليل العالم بدقائق الصّناعة ولطائف النّظم كما يلحظ جودة ملكة الرّجل وهو يستحسن بعضَ القصائد أو يسترذلها ولا بدّ لهذا المتأمّل أن يقتنع بأن للعلاّمة دراية بالشّعر وبصراً به.
وقد امتدح منذ القديم العديد من النّقاد شعرهُ فهذا إسماعيل بن يوسف الأحمرُ يقول: "كان ابنُ خلدون هذا من عجائب الزمان، وله من النّظم والنّثر ما يُزري بعقود الجُمان"(2) وهذا لسان الدّين بن الخطيب يقول: "وأمّا نظمه فَنَهَضَ لهذا العهد قدماً في ميدان الشّعر ونقده باعتبار أساليبه فانثال عليه جوّهُ، وهَانَ عليه صعبهُ فأتى منه بكلّ غريبة"(3) بل إنّ ابن خلدون نفسه يقوّم قصائده فيقول "إنّها توسّطت بين الإجادة والقصور"(4) لكن العلامة لم يسع، مع ذلك، إلى جمع شعره أو تدوينه وإنما اكتفى بحفظه حتّى إذا أراد الاستشهاد به استحضره من الذّاكرة، ولنا في كتاب التعريف من النّصوص ما يؤكّد هذا ويزكّيه. فهو يقول بعد أنْ أثبت عدداً من الأبيات من قصيدته البائية:
صحا الشّوقُ لولاَ عبرة ونحيبُ
"ولم يحضُرني منها إلا ما اذكره"(5) كما علّق بعد أن ذكر أبياتاً من حائيّته:
هذي الدّيارُ فحيّهِنَّ صَبَاحا
وقف المطايا بينهنّ طلاحَا(6)
"وهي طويلة ولم يبق في حفظه منها إ لاّ هذا"(7) وكثيراً ما تخونه الحافظة فلا تُسعفه بالقصائد التي يُريد استحضارها، من ذلك أنّه قال بعد أن أثبتَ قصيدتين نظمهما "وأنشدتُهُ في سائر أيّامه، غير هاتين القصيدتين كثيراً لم يحضرني شيءٌ منه"(.
كل هذه النّصوص التي ذكرنا تؤكّد أنّ العلاّمة لم يجمع شعره في كتاب وإنّما اكتفى بحفظه فإذا ما أراد الاستشهاد به استدعاه من الذّاكرة.
فلماذا لم يدوّن ابن خلدون شعره؟
لعلّنا لا نعدو الصّواب إذا قلنا إنّ العلاّمة كان، رغم إطراء بعض النقّاد لقصائده، يغضّ من شعره ولا ينظرُ إليه بعين القبول والرّضى، وقد أشار في العديد من فصول "المقدّمة". و"التعريف" إلى تعسّر الشّعر عليه بل إنّه كتب إلى لسان الدّين بن الخطيب قائلاً: "أجد استصعاباً عليَّ في نظم الشّعر متى رمتُهُ مع بصري به وحفظي للجيّد من الكلام"(9) ثمّ إنّه ما فتئ يردّدُ أن الشّعر من بين فنون الكلام " صعب المأخذ... ولهذا كان محّكاً للقرائح في استجادة أساليبه وشحذ الأفكار في تنزيل الكلام في قوالبه"(10). ولهذا أعرض عنه في كهولته وتفرّغ للعلم، وقد استغلّ أعداؤه قُعُوده عن الشّعر للإيقاع به، فقد أغروا به السّلطان أبا علي العبّاس وادّعَوْا أنّه لَم يمدحْهُ استهانة بسلطانه وهو الذي امتدح الملوك والوزراء قبلهُ فكان على ابن خلدون أن يعرّج، في القصيدة التي نظمها في السّلطان، على تبلّد طبعه ونُضُوب فكره بحيث لم يعد قادراً على النّظم:
مَوْلاَيَ غَاضَتْ فِكْرَتي وتبلّدَتْ
مِنّي الطّباعُ فكلّ شَيْءٍ مُشكِلُ
وأجدُّ ليلي في امتراء قريحتي
وتَعُودُ غَوْراً بينما تَسْتَرْسِلُ
فأبِيتُ يعْتَلجُ الكَلاَمُ بخَاطِري
والنّظْمُ يَشْرُدُ والقوافي تَجْفُلُ(11)
بل إنّه يعترف أن قصيدتُه باتتْ كالمرأة المرهاء (غير المكتحلة) تنْقصُهَا الزينة والاحتفال.
وبناتُ فكري إنْ أتتك كليلة
مَرْهاء تَخْطِر في القُصُور وتَخْطِلُ
فَلَهَا الفَخَارُ إذا منحتْ قبُولَهَا
وأنا على ذاك البليغُ المِقْوَلُ(12)
وعلى قدر تهوين ابن خلدون من شأن شعره كان يفتخر بكتاب العبر الذي أزجاه هديّة للأمير فيقول:
وإليْكَ مِنْ سير الزّمان وأهله
عبراً يدينُ بفضلها مَنْ يَعْدِلُ
صحُفاً تترجمُ عن أحايث الأُولى
غَبرُوا فَتُجمُلُ عنهم وتُفصّلُ
تُبديّ التّتابعُ والعمالق سرّها
وثَمُودُ قَبْلَهُمُو وعاد الأوّلُ
والقائمون بملّة الإسلام من
مضر وبربرهم إذا ما حُصِّلُوا
لَخَّصْتُ كُتْبُ الأوّلينَ لجَمعِها
وأتيتُ أوَّلَهَا بمَا قَدْ أَغْفَلُوا(13)
وقصارى القول أنّ ابن خلدون كان ينظمُ الشعر لأنه من الصّناعات التي ينبغي للأديب الحاذق أن يكون عالماً بها، مُطَّلِعاً على أسرارها... فالشّعر في نظره، "اكتساب خالصٌ"(14)، إذْ أنّ الملكة الشعريّة تنشأ بحفظ الشعر، وملكة الكتابة تنشأ بحفظ الأسجاع والترسيل.
لكن كيف فهم ابن خلدون الشعر؟
وكيف عَرَّفَهُ؟
وما هي، في نظره، أهمّ شرائطه؟
يعرّف ابن خلدون الشعر قائلاً: "الشّعرُ هو الكلامُ البليغُ المبنيّ على الاستعارة والأوصاف المُنْفصلُ بأجزاء مُتّفقةٍ في القافية والرويّ، مستقلّ كلّ جزء منها في غرضه ومقصده عمّا قبله وما بعده الجاري على أساليب العرب المخصوصة به"(15).
في هذا التعريف إلمامٌ بحدود للشعر قديمة تجعل الوزن والقافية من شرائط الشّعْر وقوانينه الأولى، وفيه أيضاً تطلّع إلى تعريف جديد يحفل بالصّورة أساساً للقول الشّعري، فالشّعر في نظر ابن خلدون، هو قبل كلّ شيء "قول بليغ" يفترق عن الكلام المألوف بما خُصّ به من صناعة، فهو إذا أخذنا بعبارة ابن رشد "القولُ الذي أخرج غير مخرج العادة" ولا يتمّ ذلك إلاّ بالمجاز أو ما عبّر عنه الجرجاني بالأحداث التي تحدثُ بالتأليف والتّركيب.
ولعلّ هذا يحيلنا على تيّار في النقد المغربي ناهض التعريف العروضي للشّعر ومال إلى تعريفه من جهة العمل والصّنعة. وربّما لهذا السّبب كان ابن خلدون من أوائل النّقّاد الذين قربُوا بينَ النّثر والشعر إذ عمد إلى اعتبار أنماط من الكتابة من صنف الشعر وإنْ لم تلتزم بالأوزان والقوافي. فالشّعر، في نظر ابن خلدون هو قبل كلّ شيء طريقة في القول وأسلوبٌ في إجراء الكلام فهو يقول "إنّ المتأخّرين قد استخدموا أساليب الشعر وموازينه في المنثُور من كثرة الأسجاع والتزام التّقفية وتقديم النّسيب بين يدي الأغراض، بحيث أصبح هذا المنثُور عديل المنظوم يُطنبُ مثلهُ في الأوصاف وضرب الأمثال ويُكثر من التشبيهات والاستعارات، وصار هذا المنثور إذا تأمّلته من باب الشّعر وفنّه"(16) لهذا السبب رغب ابن خلدون عن هذا الصّنف من الكتابة في مؤلّفاته العلميّة لأنّه "يذهبُ بالأفكار ولا يبقى في الكلام إلاّ المحسّنات"(17) وجنحَ إلى الكلام المرسل الذي يسلُكُ إلى الفكرة مسلكاً واضحاً لا لبس فيه ولا غموضَ. فهو أولى بالحقول المعرفيّة التي يَخوض فيها الرّجل وإن بدا هذا الضربُ من الكلام في عصره "مستغرباً بين أهل الصّناعة"(18).
ولكنْ كيفَ تترسّخُ ملكةُ الشّعر في النّفوس؟
يردّدُ ابن خلدون في مواضع كثيرة من المقدّمة أنّ ملكة الإنشاء لا تُستْحكَمُ لدى الشاعر إلا بالحفظ، فمتى أراد المرْءُ أن يكون شاعراً وجبَ عليه أن يحفظ شعر فحول الجاهليّة والإسلام، فعنْ طريق الحفظ ترسُخُ أساليب الشّعر في النّفس وتنطبع صورها في الذهن فإذا أراد الشاعرُ أن ينظُم قصيدة استحضر هذه الصّور وتلك الأساليب وكتب على منوالها، فمؤلّف الكلام كالبنّاء أو النَسّاج والصّورة الذّهنيّة المنطبقة، كالقالب الذي يُبْنَى فيه أو المنوال الذي يُنسجُ عليه... فإن خرج عن القالب في بنائه أو على المنوال في نسجه كان فاسداً..."(19).
إنّ المحفوظ الذي عدّه ابن خلدون أساسَ الملكة الشّعريّة هو الذي وَجَّهَ مجملَ قصائده، ومجمل صوره ورموزه. فالعلاّمة كان يكتبُ بهدي من ذاكرة موشومة بنيران نصوص كثيرة، تُملي عليه طرائق التعبير وأساليبَ الصّياغة.
أمّا القصائد التي نظمها فقد كانت تدور على غرضين اثنين هما المديح والشكوى، فأمّا قصائد المديح فقد نظمها في مناسبات مختلفة وأنشدها في حضرة الملوك والوزراء إبقاء لمودّة أو دَرْءاً لسعاية، وأمّا قصائد الشكوى فقد نظمها تحت وطأة الغُربة يُعزّي نفسه بعود إلى الأهل وشيكٍ... وفي أكثر الأحيان يمزج بين هذين الغرضين، فيمدحُ شاكياً، ويشكُو مادحاً كما في قصيدته اللاّمية التي مطلعُها:
هنيئاً بصَوْمٍ لاَ عَدَاهُ قَبُولُ
وبُشْرى بعيدٍ أنتِ فيه مُنيل(20)
وعلى عادة الشعراء القدامى كان ابن خلدون يستهلّ قصائده المدحيّة بالوقوف على الأطلال فيخاطب الرّبع، ويستوقف الرّفيق ليجعل ذلك، على حدّ عبارة "ابن قتيبة" سَبَباً لذكر الأهل الذين رحلوا عن الدّار، ويوصلُ ذلك بالنّسيب ليشْكوَ شدّة الوجْد والألم، وفرط الصبابة والشّوق، يقول في مدح أحد السلاطين:
أهْفُو إلى الأطْلاَل كانَتْ مَطْلِعاً
للبَدر مِنْهُمْ أو كناسَ رَبيبِ
عبثتْ بها أيْدي البِلى وتردّدتْ
في عطْفها للدّهر أيّ خُطوب...
وإذا الدّيارُ تَعَرَّضَتْ لمتَيّمٍ
هزّتْهُ ذكرَاها إلى التشبيبِ....(21)
إن النسيب في هذه القصيدة، كما كان في القصيدة القديمة، تقليدٌ فنّي، الغاية منهُ عطفُ القُلُوب على الشاعر وصرفُ الوجوهِ إليه، وهوَ في كلّ الأحوال بابٌ يلجُ منهُ الشاعر إلى موضوعات شَتَّى حتّى لتبدوَ القصيدة عدداً من القصائد يأخُذُ بعضها برقاب بعض. ففي هذه البائيّة يخرجُ الشاعرُ من النّسيب إلى مدح الرّسول، ومن مدْح الرّسولُ إلى الشوق إلى البقاع المقدّسة، ثُمّ يلتفتُ إلى الممدُوح يعدّدُ خصاله:
يا ابن الألى شادُوا الخلافة بالتُّقَى
واستأثروك بتاجِهَا المعْصُوبِ
جَمَعُوا لحفظ الدّين أيّ مناقبٍ
كَرُمُوا بها في مشْهَدٍ ومغيبِ...(22)
لكنّ هذه القصيدة تظلّ، ككلّ قصائد ابن خلدون، فضاء تتجاوبُ فيه أصواتُ العديد من الشعراء القدامى:
غَرُبَتْ ركائبُهُمْ ودمْعِي سَافِحٌ
فَشَرِقْتُ بَعْدَهُمَو بماءٍ غُروبِ
يَسْتَعْذبُ الصَبُّ المَلاَمَ وإنّني
ماءَ المَلاَمِ لديَّ غَيْرُ شَرُوب
مَا هَاجنِي طَرَبٌ وَلاَ اعْتَادَ الجَوَى
لَوْلاَ تَذَكّرُ مَنْزلٍ وحبيب(23)
فإذا كان البيتُ الأوّل يستعيدُ صورة الشّرق بالدّمْع في بائيّة المتنبّي فإنّ البيتَ الثّاني يستحضرُ صور "ماء الملام" في همزيّة أبي تمّام أمّا البيت الثّالث فهو كتابة جديدةٌ لمطلع معلقة امرئ القيس: قفانبْك...
هذه الظاهرة ظاهرة استدعاء النّصّوص القديمة، متواترة في كل قصائد ابن خلدون حتّى لكأن الكتابة، لدى العلاّمة، ضربٌ من التوليد، توليد نصٍّ جديد من نصٍّ قديم.
من مُبْلغٌ عنّي الصّحب الأُلَى تركُوا
ودّي وضاع حماهم إذْ أضاعوني
إنّي أويْتُ من العليا إلى حرمٍ
كادْت معانيه بالبُشرى تُحّييني(24)
لقد بقيَ ابنُ خلدون أسير ذاكرته فلمْ يسع إلى الخروج على النّصوص التي اختزنتها فظلّ يُحاكيها أو يُحاذيها، مستفيداً من "حسّه النّقدي" المرهف في سياسة اللّفظ وإجْراء المعنَى.
ولاَ تختلف قصائده في الشّكوى عن قصائده المدحيّة في المتح من ماء التّراث فابن خلدون ظلّ متشبّثاً بجماليّة القصيدة الأمّ يستحضر في قصائده، طرائقها في الأداء وأساليبها في التّعبير ولعلّ أشهر قصائده في الغرض لاميّتُهُ التي كتبها للجوباني في مصر ومطلعها:
سيّدي والظّنون فيك جميلهْ
وأياديك بالأماني كفيلهْ(25)
ولهذه القصيدة قصّة طريفة كانتْ سبباً في نظمهَا فقد وقّع ابن خلدون على فتوى تُحلّ دم الظاهر برقوق حاكم مصر المخلوع وقد كان صديق العلاّمة ووليّ نعمته منحازاً بذلك إلى خَصْمه وعدوّه اللّدود "منطاش" الذي استولى على السّلطة، يقول محمد طه الحاجري "وقد كان ابن خلدون يستطيعُ أنْ يفعَلَ ما فَعَلَ الشيخ شمس الدّين المالكي حين طُلبَ منهُ أن يكْتُبَ على الفتوى فامتنع وتعرّض بذلك للضرب والحبس لولا أن ابن خلدون كان قد غلبتْ عليه روحُ التسليم وإيثارُ العافية فاستسلمَ لما كان يُرادُ منهُ"(26).
لكن سرعان ما استردّ برقوق عرشهُ ونقَمَ على كل من كتبَ الفتوى وكان من ضمنهم ابن خلدون فأسرع إلى خلعه عن الخانقاه التي كان يُديرها وكانت كثيرة الحبوس موفورة الدّخل فأقبل ابن خلدون على نظم قصيدة إلى الجوباني صديق السلطان يتنصّلُ فيها ممّا أُخذَ به ويرجو منه أن يعرض على السّلطان أمرهُ وقد وصف العلاّمة في هذه القصيدة غُربتهُ في بلاد مصر، وذَكَّرَ السّلطان بأنّه نزل ضيفاً عليها. فهو يتوجّه إلى الجوباني قائلاً:
وَتَلَطّفْ في وصفِ حالي وشكوَى
خَلّتي يا صفيّهُ وخَلِيلَهْ
قُلْ له والمقال يكرُمُ من مثْـ
لك في محفل العُلاَ أنْ يقُولَهْ...
لا تُقصِّرْ في جَبْر كسري فما زِلْـ
ـتُ أُرجيّك للأيادي الطويلهْ
أنا جارٌ لكم منعْتُم حِمَاهُ
ونَهَجْتُمْ إلى المَعَالي سبيلَهْ
وغريبٌ أنسْتُمُوُه على الوحْـ
شَة والحُزن بالرّضى والسّهوله
وجمعتُمْ من شمله فقضَى
الله فراقاً وما قضى مأمولـهْ
غالهُ الدّهر في البنين وفي الأهْل
وما كان ظنّه أن يغُولَهْ(27)
هذه المعاني نفسها تردّدتْ في العديد من قصائد ابن خلدون فهو ما فتئ يَجْأرُ بالشّكوى، متبسّطاً في وصف غُربته ملوّحاً للأعدَاء يمعنون في إيذائه:
عَلَى أيّ حَالٍ للّيالي أعاتِبُ
وأيّ صُروف للزّمان أُغَالِبُ
كَفَى حُزْناً أنّي على القُرْب نازحٌ
وأنّي على دَعْوي شُهُودي غائبُ
وإنّي على حُكم الحوادث نازلٌ
تُسالمني طوراً وطوراً تحاربُ(28)
لقد كان ابن خلدون يتحاشى، في كلّ قصائده، غريب الألفاظ وبعيد الاستعارات، فلم يستخدم إلا قريب الكلام ومألُوف الصّور، ولا شكّ أنّه كان يقتفي أثر شعراء الأندلس الذين اتّصفوا بسلاسَةِ العبارة، والسّلاسة في هذا السّياق هي قرينة الإبانة والوضوح، فابن خلدون الذي أخرج المتنبّي والمعرّي من دائرة الشّعر وألحقهما بدائرة الحكمة إنّما كان أميل إلى الشّعر الأندلسي الذي كان يختار من الألفاظ أقربها ومن الصّور أوضحها. فالقصيدة بالنسبة إلى ابن خلدون "رسالة" وككلّ رسالة تتضمّن جملة من المقاصد، هذه المقاصد هي التي ينبغي أن يلتقطها المتقبّل دون مكابدة أو عناء فلا يحتاج إلى شَرْحٍ أو تأويل...
تلك هي في نظرنا، أهم خصائص الشّعر الخلدوني، هذا الشّعْر الذي لم يخرج على السُنّة الشعريّة بل ظلّ يستعيدُ خصائصها الفنّية والجماليّة. وينبغي الاعتراف أنّ قصائد العلاّمة لا تخلو من التعمّل والتكلّف اللذين انتَهَيا بها في الكثير من الأحيان إلى الابتذال. وكأنّي بالشاعر يتعمّد الانطلاق من جملة من المعاني يريد إثباتها في قصيدته فيكرهُ الألفاظ إكراهاً على تأديتها من غير أن يُبالي من الوقوع في الاستكراه ويعترف ابن خلدون، في غير ما موضع من المقدّمة، أنّه ليسَ من الشعراء المطْبُوعين الذين يوصفون بتدفّق البديهة التي ينثال معها الكلام انثيالاً دون تعمّل أو تكلّف!